كتاب وآراء

محاولة في إعمال الفِكر

كتب في : الثلاثاء 21 يناير 2025 - 2:40 مساءً بقلم : حنان فاروق العجمى

 

تساؤلات تدور في أذهاننا عن طبيعة النفس البشرية ومنها سؤال مُلح ويحتاج للتفكير بعض الشيء

هل تخضع ردود أفعال الأشخاص لقوانين ثابتة وطرق علاج نمطية متكررة؟

للإجابة على هذا السؤال عليك أن تتعرف على تلك التجربة التي تحدث عنها دستويفسكي في روايته عن السجناء حينما كان مسجونًا معهم بداخل سجن كئيب حيث تُعد هذه التجربة التي عاشها ووصفها بمثابة دراسة نفسية وتحليل للشخصيات عند تعرُّضها لظروف قاسية وهو أشبه بالتحليل النفسي لسلوك الأشخاص عند وضعهم بمكان يفتقر إلى الاتصال بالعالم الخارجي المتجدد والأشخاص خارج السجن حيث وجد افتعالهم للشجار بينهم ليس لأنهم سيئون ويختلقون المشاكل ولكن ذلك بهدف افتقادهم للإهتمام ورغبتهم في الإحساس بأهميتهم والتواصل مع الآخرين الذين يتمثلون في حراس السجن الذين يقومون بحل الموضوع أو تفريق المتشاجرين أو تواصلهم مع بعضهم البعض حيث يحاول كل فرد فض النزاع بكل الطرق وطرح الآراء والحديث بصوت عالٍ والاتصال بكافة صوره بين الأفراد وإيجاد الحلول مما يًشعِر السجناء بالقيمة والإحساس بقَدرِهم وأنهم يستطيعون العيش كما لو كانوا خارج السجن كأشخاص طبيعيين

ومن هذا ندرك أن السلوك الإنساني يتوقف على مدى تفاعله مع البيئة المحيطة ومحاولة تهيئة الإنسان هذه البيئة ليستطيع العيش فيها ويتواءم مع الظروف بما يحقق أهدافه كإنسان

هذا وإن دل فإنما يدل على أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع العيش بمفرده بل يسعى لخلق فرص للتواصل مع الآخر وتكوين علاقات بين الأشخاص وتحقيق نمط من أنماط التواصل مما يساهم في تطوير الفكر الإنساني وتحقيق المصلحة الفردية والجمعية والفائدة العامة وإذا ذكرنا مثالًا لهذا التَّصور وهذه الفرضية لقطة قام أحدهم بوضعها في قفص صغير وخصص لها وسادة لتنام عليها وإناءًا به القليل من اللبن لتشرب منه وبعض الطعام تُرى ماذا سيكون رد فعلها؟

عندما تجوع ستشرب اللبن وتأكل الطعام وعندما تريد النوم ستنام على الوسادة المخصصة الدافئة وبكل يوم سيقوم هذا الذي يرعاها بفعل نفس الشيء وتوفير مكان للنوم ومأكل ومشرب ولكن إلى متى ستظل القطة هكذا وحيدة لا تفعل شيئًا ولا يمكنها التواصل مع أي مخلوق لا يوجد ما يؤانسها أو من هو من جنسها

بعد عدة أيام بدأت القطة تخبط برأسها في أركان القفص وتحك فراءها بشدة ثم تترك الطعام ولا تأكل وتسكب اللبن بل قامت بتمزيق الوسادة المريحة التي تنام عليها وأصابها حالة من حالات الهياج والتذمُّر ثم أخيرًا انزوت وهدأت ومرضت ومن هذا المثال نجد أن القطة حاولت التأقلم مع وضعها الجديد ولكنها ما لبثت أن شعرت بأنها مسجونة تفتقر إلى الاتصال بالآخر كما هو الوضع عند الإنسان وردود أفعاله التي تتوقف على الظروف المحيطة ومقاومة الصعوبات والتأقلم ثم إبداء الغضب وردود الأفعال التي ربما ما قد تشعره ببعض من الراحة النفسية المؤقتة للتعايش مع واقعه

ولكن ردود الأفعال ليست قوانينًا ثابتة وإنما تخضع لكيفية تَكيُّف الإنسان مع بيئته وتفاعل مشاعره مع العوامل المحيطة به وقدرته على تحويل حياته بما يتواءم مع ما يوفر ويحقق له الرضا والاتزان النفسي والعاطفي لذلك لا يمكننا الحكم على السجناء في مثال دستويفسكي بأنهم أشخاص يختلقون المشاكل ويسعون للشر ونحكم على رد فعلهم وظلمهم بأنهم صور من الإجرام المُتَشكِّل بغير هدف بل بنظرة متفهمة عادلة يمكن تحليل سلوكهم بأنه رد فعل إنساني الدافع القوي وراءه الشعور بوجودهم وأهميتهم وأنهم ما زالوا على قيد الحياة فليس كل سلوك غير سوي هو سلوك صاحبه إنسان عدواني أو مريض بالضرورة بل قد يكون رد فعل يمكن دراسته من قِبَل علماء النفس ومحاولة إيجاد العلاج والحل الأمثل له وليس العقاب هو الوسيلة الوحيدة لكل سلوك سيء فيما عدا كل سلوك يؤدي لإيذاء الآخر أو يوقع عليه ظلمًا أو شيء تنهى عنه الشرائع السماوية والأديان مما يدفعنا للتفكير بما يسمى تعديل السلوك تحت إشراف مجموعة من المتخصصين في هذا المجال لتَعُم الفائدة على الفرد والمجتمع بتطبيق الطرق والدراسات العلمية والاستعانة بالخبرات والتجارب السابقة في معالجة المشاكل المختلفة ونستنتج من هذا الطرح أن السلوك الإنساني مُتغيِّر

لا يخضع لقوانين محددة وإنما يتوقف على عدة عوامل تؤدي لهذا السلوك الذي يترتب عليه الأفعال والتصرفات وبالتالي تختلف طرق العلاج للمشكلات وفقًا لدراسة دوافعها وعلينا أن نعيد صياغة تعاملنا مع الموضوعات المختلفة ورفض فكرة القواعد الثابتة والتعميم ومحاولة إعمال الفكر وتطويره للارتقاء بالنفس الإنسانية

بداية الصفحة