أخبار مصر

مصر بين مليونيات الشرعية وشرعية المليونيات

كتب في : الأحد 13 يناير 2013 بقلم : محمد صبرى

كما قدمت مصر نموذجاً فريداً في الثورة وإسقاط النظم الحاكمة، فإنها قدمت أيضاً نموذجاً مختلفاً تماماً في مرحلة التحول الديمقراطي أو المرحلة الانتقالية التي تلي سقوط النظام عما حدث في التجارب الدولية التي شهدت ثورات، ولكنها قدمت أيضا نوعا جديدا من الصراعات أو الحروب يضاف إلى مصطلحات الحروب الإعلامية والنفسية والاقتصادية وحرب الشوارع والحروب الأهلية، من خلال ما يعرف في مصر حاليا بصراع أو بحرب المليونيات. والمليونية هي تعبير جديدا نحتته الثورة المصرية منذ أيامها الأولى ومع الوقت باتت تعبر عن أي حشد يخرج للتظاهر ضد السلطة الحاكمة في يوم الجمعة من كل أسبوع وتحديدا في ميدان التحرير. وكان ذلك هو الحاصل خلال المرحلة التي تولى السلطة فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ثم هدأت الأمور نسبيا في أعقاب انتخاب الرئيس محمد مرسي، إلى أن عاودت المليونيات الظهور مرة أخرى بعد مرور 100 يوم على تولي الرئيس مرسي. بيد أن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس في 22 نوفمبر 2012 عمق من بعض التغيرات التي كانت قد بدأت تنال ظاهرة المليونيات. فمن حيث المكان لم يعد الأمر قصرا على ميدان التحرير، فشهدت مصر مليونية في ميدان نهضة مصر أمام جامعة القاهرة وكان مقررا لها أن تكون أمام قصر عابدين بوسط القاهرة، ومليونيات أمام القصر الرئاسي المعروف بقصر الاتحادية بمصر الجديدة، ومليونية أمام مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر. ومن حيث التوقيت، زاحم يوم الثلاثاء يوم الجمعة في احتضان المليونيات، كما عقد التيار السلفي مليونيته في ميدان نهضة مصر يوم السبت. إضافة إلى ذلك بدأ اليوم الواحد يشهد أكثر من مليونية أو مظاهرة في ميدانيين مختلفين، بل وصل الأمر في الخامس من ديسمبر 2012 إلى اجتماع فريقين متعارضين من المتظاهرين في ميدان واحد أمام قصر الاتحادية يوم الأربعاء. ومع خروج المليونيات في يوم غير يوم الجمعة، تغير أيضا موعد بدء فعاليات المليونية. فبينما كانت تبدأ الفاعليات بعد صلاة الجمعة مباشرة، أصبحت تبدأ في حدود الساعة الرابعة أو الخامسة في أيام الأسبوع الأخرى انتظارا لوصول مسيرات المتظاهرين من ميادين مختلفة في القاهرة مثل ميدان مصطفى محمود وميدان الجيزة وميدان المطرية ومن شبرا الخيمة.

هذا التطور الذي لحق بفكرة المليونيات والتسارع في وتيرتها في ظل انقسام الشارع المصري بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري ما بين تيارات مدنية تعارض الإعلان الدستوري وما تلاه من إجراءات وقرار بالاستفتاء على الدستور، وتيار إسلامي يدعم كل قرارات وإعلانات الرئيس هو الذي أوجد الظاهرة التي نطلق عليها الأن حرب المليونيات. فقد أدى تعمد التيار الإسلامي نقل الخلاف السياسي مع التيار المدني إلى خلاف حول الشريعة الإسلامية إلى تعمق الخلاف ودخول الطرفين في مباراة بدت صفرية، أي ان مكسب أي من طرفيها يعني خسارة للطرف الآخر. وفي هذا السياق تكاثرت دعوات التكفير والتخوين وساد خطاب المؤامرة والعمالة والعمل على هدم الشرعية لحسابات شخصية وخارجية. ثم كان لتبني الرئيس للخطاب المؤامراتي في مخاطبة المعارضة أن عمق أزمة الثقة لدى التيار المعارض في قدرة ورغبة الرئيس في العبور بالبلاد تلك المرحلة الحرجة بالشكل الذي يجنبها الكثير من الخسائر.

إعلان يشطر الوطن

كما سبق القول إن إصدار الإعلان الدستوري سببا في خروج الجماهير إلى ميدان التحرير وعودة ظاهرة الخيام إليه مرة أخرى محتضنة بعض الاعتصامات التي أخذت في التزايد بشكل واضح. ونظمت الجماهير مليونيتين كل أسبوع بواقع واحدة يوم الثلاثاء وآخرى يوم الجمعة للضغط من أجل إلغاء الإعلان. كما استنفر القضاء رافضين للإعلان ذاته الذي مثل عدوانا صارخا على مؤسسة القضاء أعاد إليهم ذاكرة المذبحة التي تعرضوا إليها في ستينيات القرن الماضي. بيد أن الرئيس لم يستجب لا للجماهير الغاضبة ولا للقضاة المستنفرين، وأضاف إلى ذلك الغضب غضبا آخر بإعلانه عن موعد الاستفتاء على مشروع الدستور في الخامس عشر من ديسمبر 2012، فتزايدت المطالب في الشارع بضرورة إلغاء ذلك الاستفتاء وبدأت شعارات الرحيل واسقاط النظام تعود إلى ميدان التحرير. وهنا خرجت المليونية الحاشدة يوم الثلاثاء 26 نوفمبر بالشكل الذي أعاد إلى الأذهان ذكريات ثورة 25 يناير. الأمر الذي أحدث صدمة للتيار الإسلامي الذي كان يراهن على تواضع قدرة المعارضة على الحشد، فقرر الحشد لمليونية يوم السبت 1 ديسمبر رافعا شعار الدفاع عن الشريعة والشرعية. واتخذ التيار الإسلامي من حشده الضخم دليلا على انقسام الشارع ما بين مؤيد ومعارض بما يبرر من وجهة نظره واعتمادا على كبر حجم حشوده في الميدان ألا يتراجع الرئيس عن إعلانه الدستوري وضرورة الاستمرار في المسار الذي بدأه.

وهنا بدا الأمر وكأن السجال بين الطرفين قد أصبح عبر المليونيات وتقطعت سبل الحوار. ومع غياب الرئيس عن المشهد قررت المعارضة تنظيم المسيرات إلى القصر الرئاسي على اعتبار أن الخلاف مع الرئيس وليس مع التيار الإسلامي. فكانت مليونية الثلاثاء 4 ديسمبر أمام القصر التي خرجت بشكل سلمي للغاية وتعامل مختلف من قوات الأمن مع هؤلاء المتظاهرين الذي قرر بعضهم الاعتصام أمام القصر مستعيرا مشهدا الخيام من ميدان التحرير لممارسة الضغط السلمي على الرئيس. ومع استمرار غياب الرئيس وعدم تفاعله مع الأمر تحرك التيار الإسلامي مرة أخرى بقيادة الإخوان المسلمين بل وبدعوة صريحة من قيادات الإخوان بالتوجه إلى القصر الرئاسي لفض اعتصام المتظاهرين أمامه يوم الأربعاء 5 ديسمبر بما أدى إلى انقلاب المشهد من السلمية إلى الدموية حيث اقتتل المصريون في الشارع للمرة الأولى في تاريخهم. واستمر غياب الرئيس أيضا عن المشهد الذي يجري أمام قصره تحت مساء الخميس 6 ديسمبر ليخرج بخطاب إلى المصريين أعاد فيه تكرار كل المقولات التي روجها أعضاء وقيادات الإخوان خلال الأيام السابقة على خطابه متحدثا بشكل مرسل ومكرر عن مؤامرات البعض ضد مصر وقلب نظام الحكم محاولا تبرير إصدار الإعلان الدستوري ولم يقدم للجماهير سوى دعوته للحوار يوم 8 ديسمبر وقبوله إمكانية مناقشة المادة الأخيرة من الإعلان الدستوري.

وكان موقف المعارضة الذي عبرت عنه جبهة الإنقاذ هو رفض خطاب الرئيس وما تضمنه من دعوة للحوار. ومع ذلك عقد الرئيس جولة الحوار مع ممثلي التيارات الإسلامية وبعض الشخصيات العامة ليخرج الاجتماع بإعلان دستوري جديد ألغى به الإعلان الدستوري السابق وأبقى على آثاره وحصن إعلاناته الدستورية من الطعن عليها وأبقى على موعد الاستفتاء. ومن ثم ظل موقف المعارضة على ما هو عليه أي الرفض التام والاستمرار في التظاهر والدعوة لمسيرات حاشدة يوم الثلاثاء 11 ديسمبر إلى القصر الرئاسي. ومرة أخرى يؤدي غياب الرئيس إلى تقدم التيار الإسلامي بقيادة الإخوان ليعلن عن مليونيتين لدعم الشرعية أمام مسجد رابعة العدوية ومسجد آل رشدان بمدينة نصر لدعم الرئيس والاستعداد للتدخل في حال تم اقتحام القصر من قبل المعارضة على نحو ما صرح القيادي الإخواني فريد اسماعيل على الرغم من عدم خروج أي دعوة من قبل المعارضة لاقتحام القصر الرئاسي. وهكذا يعود المشهد يوم الثلاثاء 11 ديسمبر لمشهد حرب المليونيات تضيق المسافات بينهما بالشكل الذي يجعل من احتمال تكرار مشهد 5 ديسمبر احتمالا مطروحا وضاغطا على الجميع.

إذن، فغياب الرئيس عن التفاعل مع الشارع ومطالبه أدى إلى تقدم جماعة الإخوان المسلمين لقيادة التيار الإسلامي للنزول إلى الشارع دعما للرئيس. الأمر الذي دفع البعض إلى التأكيد على أن ما يقوم به الإخوان إنما يتم بتنسيق تام بين الرئيس والجماعة وربما يكون مفروضا عليه منها. ولعل انتشار ذلك التصور بين المعارضين هو الذي يدفعهم للتمسك بمطالبهم ودفع البعض لتوجيه غضبه باتجاه حزب الحرية والعدالة والإخوان بصفة عامة أيضا، فتم إحراق العديد من مقرات الحزب وإحراق المقر الرئيس للإخوان بالمقطم. ومع أن نزول المؤيدين للرئيس أو بالأحرى الجماعة والحزب الذي ينتمي إليها يعد سابقة تنفرد بها مصر ضمن ما تنفرد به منذ ثورة 25 يناير، فإنه لا يمكن إنكار حقهم في التظاهر والنزول إلى الشارع. ولكن أيضا لا يمكن إنكار تحمل جماعة الرئيس المسئولية عن اندلاع حرب المليونيات في مصر وما تمخض عن إحدى جولات تلك الحرب من ضحايا ومصابين على عتبة القصر الرئاسي. وفي كل الأحوال فإن إشعال فتيل حرب المليونيات على النحو الحادث حاليا يدفع مصر باتجاه الهاوية ليس فقط الاقتصادية والسياسية، ولكن وربما الأهم نحو الهاوية الاجتماعية التي تتمثل على الأقل في تفسخ الوشائج التي تربط بين المصريين إلى الدرجة التي دفعت البعض للحديث عن "شهدائنا وشهدائهم" وأن كل الشهداء من الإخوان المسلمين. باختصار فإن مصر خسرت بحرب المليونيات نسيجها الاجتماعي ووحدتها الوطنية ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين بل بين المسلمين وبعضهم البعض. وأخيرا فإنه إذا كان من حق التيارات الإسلامية الخروج في مليونيات لدعم الشرعية أو حتى الشريعة، فليس من حقهم إنكار أو التقليل من شرعية المليونيات المعارضة للرئيس، فبمثل تلك المليونيات الأخيرة سقط النظام السابق وأصبح الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية.

بداية الصفحة