الأدب
الجزء الأخير من مراجعة رواية تغريدة عشق للروائية هالة البشبيشي بقلم الكاتبة حنان فاروق العجمي

برعت الكاتبة في خلق شخصيات لعدة أنماط بالمجتمع تُشكِّل كل منها صورة لامرأة حيث تعرضت لحياة كل واحدة منهن وبيئتها وصفاتها في شكل عرض قصصي قصير لكل منهن وتأثُّر ندى بهن... أشارت الكاتبة إلى صديق الإنترنت والشات أو المحادثات عبر شاشة الكمبيوتر وكيف تنشأ العلاقات بمنتهى السهولة ولكن ليس كل علاقة على الإنترنت تتحول لعلاقة على أرض الواقع فالكثير منها تمضية لوقت فراغ أو بوح بمكنونات النفس ورفض مقابلة الآخر على أرض الواقع مجرد دردشة عابرة دون قيود وتخوُّف من رؤية الآخر الذي ألقى إليه بأسراره وجزء من حياته وهي إشارة لعيوب العلاقات عبر مواقع السوشيال ميديا وأنها غير مجدية طالما لم تتحول لواقع ملموس ويوما ما ستنتهي.... التراوح بين الشخصيات المختلفة في العرض القصصي للكاتبة يجعلك تشعر بجو من التشويق والانجذاب لقراءة الرواية حتى النهاية فتارة تتحدث ندى وتارة الشخصيات التي خلقتها الروائية والتي قد تكون ثانوية وتارة فريد الزوج الهائم الحائر الذي يجري وراء سراب الحب المفقود ولقائه مع حبيبته السابقة... تعود الكاتبة مرة أخرى إلى توضيح كيف تعيش المرأة في مجتمعاتنا العربية والطمع في ميراثها ورغبة الأعمام في السيطرة عليها بتزويجها إلى ابن العم حتى لا يخرج الميراث خارج دائرة العائلة كما ظهر في شخصية ليلى حبيبة فريد السابقة وزواجها من ابن عمها...الخيانة الزوجية وفقدان النموذج الأمثل للرجل في حياة بطلة الرواية وصراعها بين صور متعددة تعايشت معها للرجل الأول والدها الراضخ لسيطرة أمها والثاني زوجها الأول المريض النفسي المتعجرف والثالث زوجها فريد التقليدي النمطي الخائن لها...
الانكسار النفسي وشعور الاحتياج إلى أم تحتوى وصدر حنون شعور افتقدته بطلة الرواية ندى وأشارت إليه الكاتبة بقوة من بداية الرواية وانسياق ندى لاقتراب عهد الصديقة المتحررة منها بمرحلة المراهقة ثم تقاربها مرة أخرى مع صديقتها عبر الإنترنت نشوى التي تشبعها نفسيا بأسلوب الفضفضة تارة والخواطر المتبادلة تارة أخرى.... قامت الكاتبة بتوظيف الصوفية والسمو الروحي في صورة رائعة بأحلام ندى البطلة وظهور شخصية أم الرضا الناصحة الأمينة بمسجد السيدة نفيسة مما يجعل القارئ يتعاطف مع البطلة ويستمر بالقراءة لإيجاد حل للعقدة وهنا ظهرت الحبكة الدرامية وقدرة الكاتبة على وضع الأسئلة داخل عقل القارئ وانتظاره ماذا سيحدث لاحقا بالرواية...استخدمت الكاتبة عنصر المفاجأة والكشف عن شخصية نشوى صديقة ندى في جروب "كافيه العصاري" عبر الإنترنت وأنها رجل يُدعى شريف هو الذي كانت تتحدث معه في تفاصيل حياتها الخاصة وليست امرأة مثلها.... الصدمة وتَخبُّط البطلة النفسي والروحي... نسجت الكاتبة ببراعة البناء والسياق المُحكم لروايتها منذ البداية باستخدامها كلمات جلال الدين الرومي لتوضيح أن النمو الروحي للإنسان لا يتحقق إلا من خلال مروره بعدة تجارب تُمثِّل خبرات حياتية للوصول لحقيقة النفس والروح والتصالح مع النفس لتحقيق هدوء وسكينة الروح...الخلل في العلاقات الزوجية قد يجعل الزوج يندفع في علاقة هشة للشعور بذاته وأنه مرغوب حتى لو كان هناك فارق كبير بالعمر أو فارق طبقي أو وجود زوجة أولى وأبناء وهذا ما حدث مع فريد في خيانته لندى وزواجه من ليلي حب المراهقة والتي تكبره بعدة سنوات ولكنها تشبعه نفسيا وعاطفيا والذي لم تستطع ندى زوجته الأولى تقديمه له فهو بالنهاية رجل المحرك الأول له هو الغريزة ثم العاطفة بينما لا يتوافر هذا في الزواج التقليدي من ابنة خاله وما لبث أن مر بعض الوقت حتى استطاعت ليلى الزوجة الثانية والحبيبة أن تسيطر على فريد وتسلب أملاكه رويدا رويدا لتًؤمِّن نفسها ماديا بعد أن سلبت عقله... استطاعت الكاتبة أن تسوق إلينا بعض النقاط الهامة التي تؤدي لخراب البيوت وفشل العلاقات وهو ما يحدث في الواقع على اختلاف الأحداث والقصص في حالة الزواج الثاني وإرغام الأهل الأبناء على الزواج على طريقتهم
والسيطرة عليهم بحجة الاستقرار والتقاليد والأعراف وطاعة الأهل طاعة عمياء والرضوخ لطلباتهم ظنًّا أن في هذا مصلحتهم وسعادتهم وهو خطأ فادح لا يمكن تصحيحه وعواقبه وخيمة.... ذكرت الكاتبة من حديث ليلى مع فريد "متخنقنيش .. عيش حياتك وأنا أعيش حياتي ... ومتخافش هكون مستنياك" وحينها أجاب فريد "إحنا متجوزين يا ليلى مش أصحاب!" وقد أشارت الكاتبة إلى ما يحدث بوقتنا هذا وهو زواج بعض الوقت وما يحققه للرجل والمرأة من مساحة للحرية بالاتفاق وهي من مظاهر العلاقات التي مصيرها الفشل وتحدث بالفعل الآن كما ذكرت الكاتبة معادلة "انت اشتريت الحب والرغبة وأنا اشتريت الونس والتغيير" كما قالت ليلى لفريد وصدمته فيها...
الشك ودخوله في العلاقات"زي ما سبتهم النهارده عشاني بكره ها تسيبني عشان غيري"
أخذتنا الكاتبة في عالمها الخاص وروايتها التي طرحت من خلالها تساؤلات عن ماهية الحب ودين العشق الذي لا مذهب له وطيف ندى الذي يرشدها بأحلام اليقظة وبمنامها ليتساءل القارئ مَنْ هو؟ حيث تصل به الروائية إلى استنتاج أن الحب معنى يطمئن الفؤاد له وروح تملأ الإنسان بهجة ولا يعلم سر الروح إلا الله في تصوير بمنتهى الروعة أن الحب لا يرتبط فقط ماديا بوجود إنسان بل هناك حب أسمى يربطنا بمن نفخ فينا من روحه وهو الله جل جلاله وتنزه عن كل نقص
أشارت الكاتبة إلى علاقات الإنترنت الوهمية والصدمات التي تنجم عنها كصدمة ندى في صديقتها نشوى التي اكتشفت أنها شريف مما أفقدها الثقة في الآخرين....
الفكرة التي طرحتها الروائية من اختفاء العقائد والأديان والحرام والقيود والجنسيات والعرف على لسان ماريان صديقة ندى عبر الإنترنت أطلقت العنان إلى كل امرأة تعيش كبطلة الرواية ندى للخروج عن القيود والأعراف والحلم بتحقيق ذاتها وأهدافها وهو غير واقعي بعالمنا العربي فرغم التقدم والتطور الفكري مازالت المرأة متقوقعة على نفسها خاضعة لقوانين وأعراف المحيط الذي نشأت فيه ولم تأخذ حقها بالكامل رغم توليها مناصب هامة بالدولة كقاضية وخروجها للعمل بالمواقع كمهندسة معمارية وطبيبة تنقذ المرضى وعضو مجلس نواب وغيرها من مجالات إلا أن العقل الذكوري ما زال مسيطرًا ومعترضًا أن المرأة مكانها البيت وتربية الأولاد أولوية أولى من أولويات الحياة وأنها عنصر خاضع للزوج في العلاقة الزوجية رغم الحركة النسائية الملحوظة بالآونة الأخيرة إلا أنها مازالت مساعٍ لتوضيح أهمية دور المرأة بالمجتمع واحترام كينونتها وقراراتها واختياراتها...
استخدمت الكاتبة بعض الصور الجمالية مثل خلق الإنسان من تراب وتشبيهه بالوردة التي جذورها في الطين عندما يقطفها أحدهم رغبة في الحصول عليها تموت وتذبل هكذا الإنسان فروعه وأصله الطيب الطاهر لا يمكن لشياطين الإنس أو الجن أن يمسُّوه بسوء لأنه محفوظ بعناية إلهية في إشارة إلى الإيمان بالقضاء والقدر وأن للكون إله يُسيِّرُه غير خاضع لإرادة بشر
صدمات الطفولة وأثرها النفسي على الإنسان فلا تنساها الذاكرة مهما كبر العمر كما أوضحت الكاتبة ما حدث مع ندى حينما حاول مجدي جار أولاد خالها الاقتراب منها في خلسة من الجميع في فرح بنت خالها ولكن العناية الإلهية أنقذتها ثم أضفت الكاتبة جوًّا من الروحانيات وأن الشاب مجدي الذي تعرَّض لها رآها كملاك وكان هناك من صدَّه عن الاقتراب منها كأن هناك قوة خفية تمنع عنها الأذى أو اقتراب البشر منها ... لحظة إدراك ندى أن العشق الإلهي أسمى عشق بالوجود يغنيها عن البشر وأن خلوتها وصلاتها وتسابيحها هي السلوى والنجاة وهنا رست سفينة الكاتبة إلى أنه لا ملجأ منك إلا إليك أي أن الله عنده وحده سر الروح وبيده أمر الخلق... برعت الكاتبة في صياغة تراتيل خاصة في الخشوع والتضرع على لسان بطلة الرواية ندى وتصوير أن الإنسان لن يجد ضالته إلا بالقرب من الله والتسامح مع جميع المخلوقات وهذا ماكان الطيف الذي يظهر لندى يرشدها إليه فكان بمثابة المعلم الروحي غير المرئي لها الذي جعلها تدرك الحقيقة وأن أم الرضا شخصية لا وجود لها كانت بمثابة روح طيبة ترشدها وتساعدها.... تسارعت أحداث الرواية وازدادت الانفعالات وكأنك تعيش أحداث الرواية مع البطلة مما يجعل القارئ يتعاطف مع ندى ويشعر أنه بحضرة صوفية تجلى فيها اسم الله.... عودة فريد وندمه على ترك عائلته واستغلال ليلى حبه لها فكانت لا تعطي إلا لتأخذ كما صورت الكاتبة ذلك في منح فريد لها جزء كبير من أملاكه وهو درس يتعلمه كل رجل يُفتتن أو يريد أن يعيش نزوة عابرة.... حادث ندى المفاجئ فإلى آخر لحظة تعيش فيها مع الرواية تجد أحداث ومفاجآت تنفعل معها بكل حواسك وأنت تقرأ مما ينم عن خيال خصب للمؤلفة ممزوج بواقع ممكن حدوثه وقد تكون أحداث عاشها البعض بالفعل فمن خلال معايشتي ودرايتي ببعض القصص الواقعية وبعض الخبرات الحياتية والقراءات فهذا العالم وهذه الأحداث تحدث بالفعل وأعلم جيدا أن هناك عباد لله يختارهم ويخصهم بعطاياه ويختبرهم....
الخاتمة بتغريدة عشق "وحتى تقبلني جوارك سأحيا لحظاتي لأهبها لك"
وكما بدأت الكاتبة الرواية في عشق جلال الدين الرومي أنهتها
يومًا ما سيأخذك قلبك إلى محبوبك
يومًا ما ستهتدي روحك إليه
فلا تستسلم في غيابات الألم الحزين ولتعلم أنه..
يومًا ما سيكون هذا الألم هو الدواء
رواية أكثر من رائعة سرد قصصي بارع عرض شيق للأحداث والشخصيات دروس مستفادة نهاية مفتوحة تترك القارئ يتمنى لو أن هناك تكملة للأحداث ويتساءل ماذا حدث لندى بعد حادث السيارة وهل عاشت بشكل يختلف عن السابق؟ وكيف عاشت حياتها بعدما توصَّلت للحقيقة والنور الذي ملأ حواسها؟ وهل سترفض الواقع وتهيم في عالم وملكوت آخر خالي من البشر فقط تعيش في محرابها الخاص تتعبد لتلقي حبيبها؟
كانت هذه قراءتي التحليلية للرواية أردت مشاركتكم إياها كما أنصحكم بقراءتها بشكل تفصيلي لأهمية هذا الطرح الذي طرحته الروائية من خلال روايتها تمنياتي لها بمزيد من الأعمال الناجحة.