تقارير
مواكب مقدسة.. طقوس احتفالات رأس السنة في مصر القديمة
كان المصريون القدماء يحتفلون بالعام الجديد بطريقة مميزة تعكس ارتباطهم العميق بالطبيعة والمعتقدات الدينية. شكّلت هذه الاحتفالات مناسبة تجمع بين الطقوس الروحية والفرح الشعبي والزراعة، حيث كان يُنظر إلى العام الجديد كفرصة للتجدد، والتضرع للآلهة لضمان الخير والحصاد الوفير. عبر الأعياد والمواكب والاحتفالات، أظهر المصري القديم فهمه العميق لدورة الحياة والكون.
كانت تلك الاحتفالات تتمحور حول التجديد، وهو ما كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدورة الشمس والفيضان السنوي لنهر النيل، وكان لذلك تأثير كبير على شكل الحياة اليومية في مصر القديمة.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على تفاصيل احتفالات المصريين القدماء بالعام الجديد وأهميتها الدينية والاجتماعية، في تصريحات خاصة لـ«بوابة أخبار اليوم» من خلال الدكتور حسين عبد البصير أستاذ علم المصريات والروائي والكاتب، ومدير متحف مكتبة الإسكندرية.
أضاف د. حسين عبد البصير، أن المصريون القدماء كانوا يحتفلون ببداية السنة الجديدة في موسم مختلف عن بداية السنة الميلادية الحالية، حيث كانت بداية السنة عندهم تتزامن مع بداية شهر «توت» الموافق تقريبًا منتصف سبتمبر، الذي يعتبر أول شهر في تقويمهم الشمسي. ولأن التقويم المصري كان يعتمد بشكل رئيسي على الدورة السنوية لنهر النيل، فإن بداية العام كانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفيضان النيل الذي يعيد خصوبة الأرض. كان الفيضان يشكل بداية جديدة للموسم الزراعي، وبالتالي فإن الاحتفال بالعام الجديد كان يتداخل مع آمال المصريين في خصوبة الأرض ووفرة المحاصيل.
◄ طقوس تجديد طاقة الآلهة في مصر القديمة
من أبرز الممارسات التي كانت تتم في ذلك العيد هي إخراج تماثيل الآلهة من المعابد وتعرضها لأشعة الشمس. كانت تلك الطقوس تُعتبر وسيلة لتجديد طاقة الآلهة وضمان استمرارية حياتهم. كانت الشمس تُعتبر مصدر الحياة في الفكر المصري، ولذا كان المصريون يعتقدون أن تعرض تماثيل الآلهة لأشعة الشمس في بداية السنة الجديدة يساعد في تجديد قوتها وإعطائها طاقة جديدة، وبالتالي ضمان استمرارية النظام الكوني وتوازن الطبيعة.
على سبيل المثال، في معابد الكرنك في مدينة طيبة «الأقصر حاليًا»، كان يتم إخراج تمثال الإله آمون الكبير، الذي كان يُعتبر الإله الأكثر هيبة وقوة في مصر القديمة، ويُعرض لأشعة الشمس كي يجدد قوته الروحية. في ذلك الإطار، كان المصريون يؤمنون أن تماثيل الآلهة تحمل جزءًا من قوتها الإلهية، ولذلك كانت تعرض في الهواء الطلق لتستفيد من طاقة الشمس.
◄ الطقوس الدينية والاحتفالات بالعام الجديد
كانت الاحتفالات بالعام الجديد أيضًا تتضمن العديد من الطقوس الدينية التي كانت تهدف إلى استرضاء الآلهة وضمان الخصوبة والوفرة في الأرض. كانت المعابد تزين بالزهور والرايات الملونة، ويتم تقديم القرابين التي تشمل النباتات والطيور واللبن والعسل والنبيذ، مما كان يرمز إلى الوفرة والخصوبة.
إضافة إلى ذلك، كان الكهنة يؤدون الطقوس الخاصة التي تتضمن تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية التي تطلب من الآلهة منح الأرض وملوكها والحكام والمجتمع المصري بركة وازدهار في السنة الجديدة. وكانت تلك الطقوس تشمل صلوات للإله حابي «إله النيل» الذي كان يُحتفل به في بداية موسم الفيضان، وإله «آمون» الذي كان مرتبطًا بالقوة الإلهية والخلق.
◄ الشمس في احتفالات العام الجديد
كانت الشمس تمثل جوهر المعتقدات الدينية المصرية القديمة، وكانت تمثل عنصرًا أساسيًا في الاحتفالات بمناسبة العام الجديد. كان هناك ارتباط وثيق بين الإله رع «إله الشمس» وبين فكرة التوازن الكوني، حيث كان يُعتقد أن عودة الشمس للسماء في بداية العام تشير إلى تجديد الحياة.
لقد كانت الشمس في الفكر المصري تمثل قوة إلهية مركزية، وأُقيمت احتفالات لتكريم ذلك الإله كل عام. كان ذلك الطقس يرتبط بحركة الشمس خلال فصول السنة، حيث كانت الشمس تُعتبر رمزًا للقيامة والتجدد. كان المصريون يعتقدون أن التجدد الذي يحدث في بداية كل سنة يُسهم في الحفاظ على توازن الكون، ومن ثم كانت تلك الاحتفالات جزءًا من أمل المصريين في أن تظل الأرض مزدهرة طوال العام.
◄ فيضان النيل.. مفتاح الخصوبة واحتفالات العام الجديد
كانت حياة المصريين القدماء تعتمد بشكل كبير على فيضان نهر النيل، الذي كان يُعتبر من أهم أسباب ازدهار الحياة الزراعية في البلاد. وكان الفيضان السنوي يضمن تربة غنية بالمواد المغذية، مما يسمح بخصوبة الأرض ووفرة المحاصيل. لذا كانت بداية العام الجديد تتزامن مع بداية موسم الفيضان، وكانت احتفالات رأس السنة تُعتبر احتفالات بنجاح النيل في تجديد الحياة على الأرض.
كان المصريون يحتفلون بوصول الفيضان بشكر الآلهة خصوصًا الإله «حابي» الذي كان يُصوَّر على شكل إنسان يحمل زهور اللوتس والطيور في يديه، وهو رمز للنيل وعطاء الأرض. في تلك الفترة، كانت العديد من العادات والطقوس الاجتماعية تنتشر، مثل تجهيز الطعام والحلويات الخاصة التي يتم تبادلها بين الأسر والمجتمعات المحلية، وكانت تلك الطقوس تساهم في تعزيز الوحدة الاجتماعية والروابط العائلية.
◄ تكريم الآلهة.. طقوس الخصوبة والوفرة في العام الجديد
كان الاحتفال بالعام الجديد يرتبط أيضًا بإعادة تقييم الروابط بين المصريين وآلهتهم، وتكريم آلهة أخرى مثل «إيزيس» و«أوزيريس» اللذين كان لهما علاقة بالخصوبة والزراعة، حيث كان يُعتقد أن إيزيس تقوم بحماية المحاصيل في الأرض، وأن أوزيريس يعيد تجديد الحياة من خلال موت وقيامة الزرع. كانت الطقوس الدينية في رأس السنة تشمل أيضًا تقديم القرابين لتلك الآلهة لضمان محاصيل جيدة وحصاد وفير.
كان العام الجديد في مصر القديمة يتزامن مع ظاهرة فيضان النيل، والتي اعتُبرت رمزاً للتجدد والخصوبة. تزامن هذا الحدث الطبيعي مع ظهور النجم سيريوس «الشعري اليمانية»، الذي كان إشارة لبداية العام الجديد وفقاً للتقويم المصري القديم.
◄ الطقوس الدينية للاحتفال
المواكب المقدسة.. تُقام مواكب احتفالية ضخمة لنقل تماثيل الآلهة، مثل تمثال الإله آمون، من المعابد الرئيسية إلى معابد أخرى أو مواقع مقدسة. كانت هذه المواكب تُرافقها أناشيد دينية وقرابين لتقديم الشكر للآلهة.
القرابين والتضرعات.. كان المصريون يقدمون قرابين من الطعام والزهور للحفاظ على رضا الآلهة.
تُقام طقوس خاصة داخل المعابد يتلوها الكهنة لطلب عام مليء بالخير والخصوبة.
- الاحتفالات الشعبية
- الموسيقى والرقص
اجتمع الناس في الساحات والمناطق العامة للاحتفال من خلال الغناء والرقص، بمصاحبة الآلات الموسيقية مثل الطبول والقيثارة، كانت الأناشيد تعبر عن الفرح والأمل في بداية جديدة.
الأطعمة والمشروبات.. أعد المصريون القدماء ولائم خاصة، تميزت بالأطعمة المحببة مثل الخبز والبيرة، شارك الجميع في الولائم، مما عزز الروابط الاجتماعية.
◄ الرموز المرتبطة بالاحتفال
- زهرة اللوتس: كانت رمزاً للتجدد والنقاء، تُستخدم في الزينة وفي الطقوس.
- الجعران: رمز الحظ والسعادة، كان يُوزع كتذكار خلال الاحتفالات.
- المياه: تمثل النيل، وكانت تُستخدم في الطقوس كرمز للحياة والتجدد.
◄ الأهمية الاجتماعية والاقتصادية
كان الاحتفال بالعام الجديد فرصة لتقوية الروابط الاجتماعية بين مختلف طبقات المجتمع، ودعم الاقتصاد المحلي من خلال إعداد الولائم وشراء الزينة والقرابين.
كان الفرعون يلعب دوراً مركزياً في هذه الاحتفالات، حيث يظهر كوسيط بين الشعب والآلهة لضمان ازدهار المملكة، وتُقام احتفالات خاصة داخل القصر الملكي بمشاركة الكهنة وكبار المسؤولين.
احتفالات العام الجديد عند المصريين القدماء كانت أكثر من مجرد مناسبة زمنية؛ بل كانت حدثاً مليئاً بالروحانية والفرح والامتنان. من خلال طقوسهم الدقيقة واحتفالاتهم البهيجة، عبر المصريون القدماء عن فهم عميق لدورة الحياة، وتواصلهم الوثيق مع الطبيعة والآلهة. إنها شهادة على حضارة مزدهرة امتزجت فيها القيم الروحية بالاحتفالات الاجتماعية، مما يجعلها جزءاً لا يُنسى من تاريخ الإنسانية.
وكانت احتفالات المصريين القدماء بالعام الجديد مزيجًا من الطقوس الدينية والاحتفالات الزراعية والاجتماعية، وكانت تعكس فهمهم العميق للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، من خلال تلك الطقوس، سعوا إلى تجديد الحياة وإعادة التوازن في الكون، وضمان خصوبة الأرض وازدهارها.