تقارير
«حمام نجم الدين يوسف».. إرث معماري من العصر الأيوبي
بين أزقة القاهرة العتيقة وشوارعها التاريخية، يقف حمام نجم الدين يوسف بن مجاور كشاهد على براعة العمارة الإسلامية في العصر الأيوبي. تأسس هذا الحمام بين عامي 595 و598 هـ، ويقع في شارع المصبغة خلف مسجد محمد بك أبو الدهب. تاريخ هذا الحمام الغني يعكس ثقافة وحرف كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة سكان القاهرة في تلك الفترة.
يعد حمام نجم الدين واحدًا من أبرز المعالم التي تجمع بين الوظيفة الاجتماعية والجمالية المعمارية، وهو نموذج للحمامات العامة التي كانت مراكز للتجمع الاجتماعي والتطهر الجسدي والروحي. ويأتي هذا التقرير ليسلط الضوء على تاريخ الحمام ووظيفته وتفاصيله المعمارية الباقية.
يعود تاريخ إنشاء حمام نجم الدين يوسف بن مجاور إلى الفترة بين عامي 595 و598 هـ، حيث أسسه نجم الدين يوسف بن مجاور، وهو من الشخصيات البارزة في تلك الحقبة التي اهتمت ببناء المعالم العامة التي تخدم المجتمع. كانت الحمامات العامة في العصور الإسلامية من المعالم الضرورية لخدمة السكان، حيث تجمع الناس للاستحمام وقضاء أوقاتهم في بيئة تجمع بين الاسترخاء والنقاش الاجتماعي.
الاجتماعي.
كان الحمام يُعرف في الأصل بحمام «القفاصين»، نسبة إلى حرفة «القفاصين» التي كانت تُمارس في المنطقة المجاورة، حيث كانت تُصنع الأقفاص من جريد النخل. هذه الحرفة لم تكن عشوائية بل منظمة، إذ انقسمت إلى طائفتين: طائفة لصناعة الأقفاص من الجريد التي تستخدم للأفران في الحي، وأخرى لصناعة الأقفاص الحديدية. ومع الوقت، اكتسب الحمام اسم "حمام المصبغة" لارتباطه بشارع المصبغة، وهو الاسم الذي أشار إليه المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتاباته عن القاهرة.
◄ الأهمية الاجتماعية
لم يكن حمام نجم الدين مجرد مكان للاستحمام، بل كان مركزًا اجتماعيًا يلبي احتياجات الناس من مختلف فئات المجتمع. كان الحمام يتوسط منطقة مزدحمة بالحرفيين والتجار، مما جعله مكانًا مناسبًا للقاء السكان وتبادل الأخبار والاستراحة بعد يوم عمل شاق. وبتصميمه الفريد، ساهم في جذب الناس للتمتع بالراحة والاستجمام، حيث كان يتم تقديم خدمات التدليك والعناية بالجسد، مما يجعله يمثل جزءًا أساسيًا من الحياة الاجتماعية في ذلك العصر.
إلى جانب دوره الاجتماعي، عكست الحمامات العامة مثل حمام نجم الدين روح التكافل بين الناس، حيث كان المكان مفتوحًا لجميع الفئات دون تمييز. وشكل الحمام جزءًا من الحياة الدينية كذلك، إذ كان الناس يرتادونه للتطهر قبل أداء العبادات، وخاصة صلاة الجمعة، مما يعزز من الروابط الروحية والاجتماعية للمجتمع.
◄ الوصف المعماري
رغم مرور القرون على بناء الحمام، إلا أن ما تبقى من عمارة هذا المبنى يكشف عن روعة التصاميم المعمارية التي ميزت العصر الأيوبي. يتبقى اليوم من حمام نجم الدين الواجهة فقط، وهي واجهة تتميز بتصميماتها الهندسية البديعة التي تعكس الإبداع المعماري في تلك الحقبة.
تحتوي الواجهة على ثلاثة صفوف من المقرنصات، وهي عناصر معمارية زخرفية تعتمد على تداخلات هندسية متقنة، تعلو مدخل الحمام الذي يتميز بعقد مدبب تعلوه أشكال نجمية، وهي تصميمات شائعة في العصر الأيوبي. كان المدخل يقود إلى غرفة استقبال أو ما يُعرف بـ «البراني»، ثم غرفة دافئة للاستعداد، ثم إلى قلب الحمام، الذي يضم غرفة الاستحمام المركزية.
◄ تحديات واجهت الحمام عبر العصور
واجه حمام نجم الدين يوسف بن مجاور العديد من التحديات عبر العصور، أبرزها عوامل الزمن التي أدت إلى تآكل أجزاء كبيرة من المبنى. بالإضافة إلى الزحف العمراني وتغير استخدامات الأراضي في المنطقة، والتي أثرت على العديد من المباني التاريخية. وقد أدى عدم وجود خطة ترميم دائمة إلى تدهور حالة الحمام وفقدان العديد من معالمه الأصلية.
ورغم الجهود التي تبذلها الجهات المعنية للحفاظ على المعالم التاريخية، إلا أن التحديات المالية والإدارية تعوق أحيانًا الترميم الكامل للمبنى. ويحتاج حمام نجم الدين إلى إعادة ترميم للحفاظ على ما تبقى منه، وتسليط الضوء على قيمته التاريخية والفنية.
◄ معلم تاريخي
يعد حمام نجم الدين يوسف بن مجاور إرثًا معماريًا هامًا يعكس أسلوب حياة المجتمع القاهري خلال العصر الأيوبي. والحفاظ على هذا المعلم لا يقتصر على ترميم الجدران المتبقية، بل يتطلب أيضًا إحياء القصص والتفاصيل التي تخص الحمام وحياته الاجتماعية. إن إعادة إحياء الحمام كمعلم سياحي وتراثي يمكن أن يسهم في جذب الزوار من مختلف أنحاء العالم للتعرف على التراث المصري.
لذلك، فإن الحفاظ على حمام نجم الدين يتطلب وضع خطة شاملة تشمل الترميم المادي للمبنى، وتوفير جولات إرشادية تروي للزوار قصته. كما يمكن استخدام التقنيات الحديثة كالعروض التفاعلية لإظهار التصميم الداخلي للحمام كما كان عليه في أوجه، مما يعزز من تجربة الزائر ويجعله يعيش التاريخ بشكل أقرب.
يظل حمام نجم الدين يوسف بن مجاور شاهدًا على جمال العمارة الإسلامية وقيمتها الثقافية. وبينما تطوى صفحات التاريخ، يبقى هذا الحمام رمزًا للإبداع الفني والاجتماعي الذي ميز القاهرة عبر العصور. هذا المعلم يذكرنا بأهمية الحفاظ على تراثنا وأهمية إحياء هذه المواقع، ليس فقط كآثار صامتة، بل كجزء من ذاكرة القاهرة وروحها المتجددة.