الأدب
... ' إيذاء نفسي ' ...
ارتديت ملابس أنيقة للخروج معه ولكنه لم ينظر إليَّ على الإطلاق فقلت ربَّما شارد الذهن ومرهق في عمله كثيرًا
قلتُ في نفسي سأُنبِّهُه فقط لأخلق جوًّا هادئًا لطيفًا بعيدًا عن مشاكل الحياة اليومية وعدت لحواري معه مرة أخرى والذي يبدو لأي إنسان عاقل حوار من طرف واحد وقلتُ له ما رأيك ارتديت هذا لأول مرة إنه جديد لأخرج معك به
ولكنه لم يجبني بل ظل يتصفح هاتفه وكأنه منهمك في قراءة كتابٍ ما أو صحيفة ولم يلق بالاً لكلامي
الطبيعي أن أُصاب بمشاعر الغضب لأنها ليست المرة الأولى لتجاهله لي ولكن بكل مرة كنت أتجاهل لامبالاته وجرحه لشعوري وعدم اهتمامه بخلق الأحاديث والموضوعات المختلفة حتى أجعله يخفق في حجته أنني أفتعل المشاكل
بلا سبب يُذكر ولكن لا أعلم لماذا ضجرت من كل شيء ضقت من تبريري لنفسي لتهدئتها
شعور بداخلي يحدثني لماذا عليَّ أن أتَحمَّل أسلوبه الفظ في معاملتي فقلت له لماذا دعوتني للخروج؟
ولماذا أوهمتني أننا نعيش سويًّا داخل حياة زوجية سعيدة؟
لكن الحقيقة أني أعيش الصمت معك ولأول مرة قررت مواجهته فسألته مَنْ أنا بالنسبة لك؟
فأجاب قائلًا بعد أن جلسنا بأحد الكافيهات بمول ومركز للتسوق كبير
ماذا تطلبين ؟ سأطلب قهوة تركي وأطلب لك كابتشينو
قلت له ألم أسألك مَنْ أنا بالنسبة لك؟
أخيرًا أجاب: أنت أم العيال
هكذا أجابها بهذه الطريقة وبهذا المصطلح"أم العيال" بمعنى وظيفتها هي أم الأولاد فقط وصمت ولم يتكلم بعدها
فقامت من مقعدها تحاول أن تخبئ الدموع التي تتساقط من عينيها وقالت له أريد العودة للمنزل فغضب ورفع صوته عاليا كالعادة قائلًا : عيشة لا تُطاق .... ومشى مسرعًا إلى الباركينج ليدير فجأة مفتاح السيارة لتركب بجانبه ليعودا للمنزل تحت وطأة ويلات رعده وبرقه وحنقه وسبِّه للعيشة والقيادة الجنونية حتى يدُب الفزع في قلبها ولا تتحدث معه ثانية وتواجهه مرة أخرى بحجة كل الناس يعيشون هكذا وأنها تتبطر على النعمة التي هي فيها لتصمت بعد حديث غير مجدي ويعود فينام وتبقى هي تبكي على حالها وحياتها ويصبح صباح يوم جديد تتحمل كل أعباء المنزل والأولاد وهو يذهب إلى عمله كما كان يقول لها عمل متواصل ليل نهار لا يوجد يوم أجازة إلا نادرا ويكون مصيره خناقة إما بالبيت أو خارج البيت إذا تَعطَّف عليها وعلى الأولاد بالخروج ويعودون للمنزل بعد الخناقة وحالته الهيستيرية ليعيشوا الحزن المعتاد ويتمنون لو لم يخرج معهم
هذه قصة من القصص الموجودة حولنا قد تكون قصتك عزيزي القارئ أو قصة أحد زملائك بالعمل أو حياة إبنك أو ابنتك هي واقع منتشر ولكن لا يُحكى عنه بصورة جريئة وواضحة لماذا؟ لأنه لا يوجد حل له أو خوفًا من خراب البيوت
لأن هذا النموذج في علم النفس هو ما يُطلق عليه الشخص النرجسي والذي يُعرف بتعَمُّده الإيذاء النفسي وقد يصل لحد الإيذاء الجسدي أو تدبير المؤمرات المخفية لأشخاص أبرياء ذنبهم الوحيد الوقوع في براثنه دون العلم بحقيقة شخصيته ومرضه الذي لا يُرجى شفاؤه فالشخص النرجسي يظهر لكل الناس إنسان ملتزم في عمله يتعامل مع الجميع باحترام إلا مَنْ يعلم حقيقته يظهر بمظهر الأنيق الذي يحب كل الناس ويراعي شعورهم إلا مَنْ يقع عليه اختياره ليكون ضحيته ليمارس عليه كافة طقوس العذاب فلن يرحمه ولن يشفق عليه وسيضغط بكل ما أُوتي من قوة على أي نقطة ضعف يلمسها فيه وإن كانت الضحية زوجته يضغط عليها بحبها لأولادها وتمسكها بهم ليقهرها ويقوم بإذلالها وإن كان شخصا يعمل تحت إمرته يضغط عليه بقطع عيشه وتشريده إن امتلك القدرة والسلطة على ذلك
النرجسي شخص أناني النزعة لا يحب إلا نفسه ومصلحته الشخصية يحيط نفسه بما يسمى الحاشية يختبئ وسطهم ويحتمي بهم ويدرك جيدا عدم خيانتهم له لوجود المصالح المشتركة بينه وبينهم أو أن كل طرف يمسك على الآخر ما يدينه قانونيا أو أخلاقيا ويخاف من الفضيحة فتكشف حقيقته
النرجسي لا يهمه أي شخص بحياته على اختلاف موقعه لا أم أو أب أو أخوة أو أعمام أو أي أقارب باختلاف المسميات لا يهمه أولاده ولا زوجته لا يشعر بالتقصير أو بالذنب تجاههم يهمه فقط أن يحافظ على شكله الاجتماعي وسط زمرة من البشر يريد أن يصبح مثلهم وقد يكونوا أعلى منصبًا أو طبقة اجتماعية عنه ويريد الوصول والتسلق إليهم فيظهر محاسنه كلها بشكل تمثيلي مُتقن ويسعى جاهدًا لإخفاء حقارة شخصيته ويخاف ويؤذي ويُبعد كل مَنْ يعرف حقيقته ويُمثِّل مصدرًا للخطر عليه وعليك أن تنتبه جيدًا لأنه كالحيات والعقارب يلدغ بدون سابق إنذار ولكنه يلجأ أولًا لأسلوب التعذيب والقهر ليمتص دماء ضحيته تدريجيا حتى إذا حان وقت لدغها والاستغناء عنها لا تستطيع المقاومة فيهزمها بكل سهولة في نزال غير شريف فهو صاحب النهايات المفزعة والشر المطلق وقلب الحق باطل والباطل حق يستطيع تأليف القصص لينجو بفعلته ويُتقن فن قلب الترابيزة جيدا ولا يملك بقلبه أي ذرة رحمة ولا شفقة حتى بأولاده يميل إلى تحطميهم وإضعاف شخصياتهم حتى لا يستطيعون مواجهته أو محاسبته على أفعاله وتصرفاته معهم سواءً التعنيف النفسي أو الجسدي ولا تتعجب عندما تراه رجل المهام الصعبة الأول فهو يسعى بكل قوته لإثبات أنه الأوحد على الكرة الأرضية والأفضل دائمًا بل ونموذج مُشرِّف لا يشوبه شائبة ولكن الويل كل الويل لمَنْ يراه كما يرى نفسه بمرآته يقوم بدفنه بأرضه يفزع من وجوده لا يريد أن تقوم له قائمة يُدمِّره تدميرًا كليًّا ويمارس حياته الطبيعية ويبحث عن ضحايا آخرين لإشباع غروره ورغباته المريضة يؤمن والعياذ بالله أنه الرب في الأرض وأنه السبب الرئيسي لوجود وحياة الآخرين أما عن العبادات بالنسبة له فهي شكل من أشكال الوجاهة الاجتماعية وليست عبادة خالصة لله تعالى النرجسي إنسان شهواني يحب التَّمتع بكل شيء في الحياة فهو نَهِم للطعام والشراب وكل شهوات الدنيا يعيش اليوم بيومه ولا يتحمل أي مسؤولية بل يبحث عمن يستطيع تسخيره لاستخدامه كوسيلة لتوفير حياة هادئة له دون أي حقوق أو واجبات يلتزم بها تجاهه وكأنه خلق لخدمته دون مقابل وإذا أدرك هذا المُسَخَّر حقوقه تكون النتيجة غضب النرجسي الشديد عليه وتوقيع العقاب والأذى بكافة أشكاله وصوره
كانت هذه لمحة وصورة من صور الشخصيات النرجسية التي نقابلها في حياتنا ومنا من يكشفها على حقيقتها ومنا من لا يستطيع فهمها ويحاول التعايش معها ويُحمل نفسه العبء والمسؤولية ويُكذب نفسه حتى يحدث ما لا يُحمد عقباه ويتحول لمريض نفسي ومجني عليه وضحية لهذا يجب أن ينتشر الوعي والتنبيه المستمر لصفات هذه الشخصيات ومواجهتها والقضاء على تَجبُّرها في مجتمعاتنا