من طبائع المصريين

كتب في : الأحد 20 ديسمبر 2015 بقلم : عبد الرحيم حشمت
عدد المشاهدات: 17686

يشعر المصري الذي عاش مدة طويلة بعيدا عن تراب أرض الوطن كلما عاد إلى مسقط رأسه للراحة من عناء العمل ، والاطمئنان على ذويه ، ومتابعة ما له وما عليه أنه مختلف تماما عن محيطه ، ومتميز في تفكيره ، وجميع تصرفاته ، وطريقة معاملته ، وأسلوب حياته وكأنه لم يعش من قبل في هذا المجتمع ، ولا يعرف أسراره ، ويجهل تماما خباياه ، ويتوه في دهاليزه ، ويجد صعوبة شديدة في التكيف مرة أخري مع حياته .

ربما لأن المصري المغترب عاش حياة مختلفة كليا في مجتمعات غريبة ، وخالط جنسيات عديدة أجمل ما فيها أنها تلتزم بالمواعيد .. أما عن عدم الالتزام بالمواعيد في المجتمع المصري فحدث ولا حرج حيث ما زال المصريون يهدرون عنصر الوقت .. والأعذار عديدة منها ما هو مقبول بحكم الأمر الواقع كزحمة المواصلات ، والردود كثيرة منها ما هو مرفوض من قبيل " ما تدققش " و " الدنيا ما طارتش " كما أن غالبية تلك الجنسيات تؤمن بثقافة الاتجاه الواحد فتأثر بها المصري المغترب أكثر مما أثر فيها والمقصود هنا بثقافة الاتجاه الواحد أي أن المعاملة بشكل عام واضحة ومباشرة لا لبس فيها ، ولا تحتاج إلى لت وعجن ، ولا لف ولا دوران .. إذ أن الكلمة – أية كلمة – لدى معظم الشعوب الأخرى لا تعني إلا معنا واحدا ، ولا تحمل أكثر من تفسير .. بينما درجنا نحن معشر المصريين على التعامل وفق ثقافة متشابكة متعددة الاتجاهات .. فمثلا إن سألت أي إنسان في أي مكان في العالم مستفسرا منه عن معنى كلمة واحدة ولتكن مثلا " حديد " فقطعا ستسمع إجابة واحدة من الجميع ألا وهي " لا أعلم " .. أما إن سألت مستفسرا عن معنى نفس الكلمة " حديد " في مصر فستسمع العجب ، وترى الأعجب حينما يلتف حولك في لمح البصر جمع كبير من المتطوعين كل منهم يدلي بدلوه .. فمنهم من يقول لك " هو ما قلش فين بالظبط ؟ " ، وأخر يقول " حديد ايه ؟ يمكن قصده السكة الحديد ؟ " ، بينما يجيبك ثالث فيقول " لا دي ولا دي هو أكيد قصده شركة حديد الدخيلة اللي اغتصبها احمد عز " ، ثم يتدخل رابع بخفة دم ليس لها مثيل فبقول " لا أكيد هو قصده الأهلي حديد " ، شعب عبقري سر قوته في بساطته ، وطيبته ، وقوة احتماله ، وضحكته ، وخفة دمه .

فالمصري إنسان اجتماعي بطبيعته ، وبحكم الثقافات التي غزت بلاده أصبحت السخرية إحدى أسلحة مقاومته وهو يدافع عن أرضه ، ويحمي ثقافته ، ويزود عن هويته .. إذا المصري انسان ساخر بحكم تاريخه لذا كان وما يزال يسخر من أي شيء ، وكل شيء ، ولا توجد أمام سخريته موانع أو محظورات سوى المساس بالمعتقدات .. فالنكتة أو كما يطلق عليها الفكاهة الشعبية هي جزء أساسي من ثقافة المصريين ، وإحدى أدواتهم التعبيرية التي يبعثون من خلالها رسائلهم للحكام والمسئولين .

من الحقائق التاريخية المعروفة أن أكثر ما يميز الشعب المصري عن بقية شعوب المعمورة أنه شعب يحب البهجة ، ويصنع الابتسامة ، ويفلسف حياته بالنكتة ، وينتقد بها ذاته ، ويسخر من معاناته ، ويهون على نفسه ، ويحايل بها أيامه ، ويخاطب من خلالها حكامه ، ويطلعهم على ظروفه الصعبة التي لا يطيقها شعب آخر غيره .. فالنكتة تخفف حدة الضغوط النفسية ، والأعباء الاقتصادية التي أثقلت كاهل معظم المصريين ، وتمنحهم طاقة ايجابية ، وتعطيهم أمل في غد أفضل ، وتجعلهم أكثر قدرة على تحمل المصاعب ، ومواجهة التحديات والمحن والشدائد .. لذلك قد تذبل الابتسامة ، وقد تبهت الضحكة فلا تخرج من الأعماق .. لكنها لا تغيب أو تموت حتى في أحلك الظروف وأسوأ الأوقات .. وربما يساعد على استمرارية هذه الروح الفكاهية أن اللهجة المصرية لهجة نابضة بالحياة ، قديمة عابرة للعصور ، متعددة المنابع ، غنية بالمفردات ، تتميز بالمرونة والهيمنة .. إذ تكتشف فيها كل يوم مفردات جديدة أضيفت عليها بعبقرية نادرة .. خاصة المفردات الشبابية التي تترجم الحالة المصرية ، وتعبر عن رؤية الشباب ، وانتمائه لمحيطه ، وتقييمه لماضيه ، وتكيفه مع حاضره ، ومدى إيمانه بمستقبله .

ومن الحقائق التاريخية أيضا أن المصريين منذ عصر الفراعنة جبلوا على الاختراع فصنعوا المعجزات ، وطبعوا على الابتكار فبنوا العجائب ، وأبدعوا في كافة العلوم والفنون فحققوا الأمجاد .. فنهلت البشرية كلها وما زالت تنهل من فيض علومهم .. وما زال المصريون يبدعون حتى كتابة هذه السطور .. ولعل من أبسط ابتكاراتهم العصرية أنهم ابتكروا من العدم إشارات مرورية ضوئية وصوتية ليس لها مثيل في العالم يتبادلها قائدوا المركبات فيما بينهم ولا يفهم مدلولها ، ولا يفك طلاسمها كائن من كان على وجه الأرض لدرجة أنه حينما يتابعها المرء عن كثب - خصوصا في الطرق السريعة - يشعر وكأنه قادم من كوكب آخر ، ويصاب بالانبهار والدهشة والتعجب .

لكن أفضل ما في النكتة المصرية أنها تعكس التوجه العام لمزاج الغالبية العظمى من أبناء الطبقات الكادحة المنسية .. فهي النافذة الحية المتاحة لجميع المصريين بلا استثناء للتعبير عن الرأي في شتى مناحي الحياة .. حيث تعتبر النكتة بكافة أنواعها السياسية ، والاجتماعية ، والجنسية ، والاقتصادية المؤشر العفوي الذي يعبر عن نبض الشارع المصري إذا أن النكتة بالنسبة للمصريين ما هي إلا ترجمة فورية عما تؤل إليه الحالة الاقتصادية ، وهي معيار دقيق لتقييم المسيرة السياسية في أي عصر .. وقد لا يعرف الكثيرون منا أن كبار الساسة والحكام في جميع العهود وشتى العصور يتابعون إطلاق النكات باهتمام .. وكم من نكته أطلقها أبناء الشعب المصري تاريخيا فأعقبها إصدار قرار سيادي .. انظر كيف يشارك هذا الشعب العبقري في رسم السياسة العامة للدولة من حيث لا يدري !! .

بداية الصفحة